مفهوم التدبير الإلهي في القرآن الكريم: بين الاستقلال والتبعية

عالم الروحانيات
المؤلف عالم الروحانيات
تاريخ النشر
آخر تحديث

 مقدمة

يُعدُّ مفهوم التدبير الإلهي من المفاهيم الأساسية في الفكر الإسلامي، ويظهر بوضوح في القرآن الكريم الذي يبيّن أن الله هو المدبر الحقيقي لكل شيء في الكون. يتعامل القرآن مع مسألة التدبير من خلال الإشارة إلى أن الله هو المصدر الوحيد للأمر، ولكن في الوقت ذاته يعترف بوجود مدبّرين آخرين على مستوى الأسباب والمسببات. هذه المفاهيم قد تثير بعض الإشكالات لأول وهلة، خصوصًا عندما يُتأمل في الآيات التي قد تبدو متناقضة. ومع ذلك، فإن فهم العلاقة بين الله وخلقته من خلال التدبير يوضّح بجلاء كيف أن هذا التدبير الإلهي يشمل كل شيء في الكون، دون تعارض بين الأسباب الطبيعية والمسببات الإلهية.

التدبير الإلهي المطلق



التدبير الإلهي المطلق:

يؤكد القرآن في آية 31 من سورة يونس، حينما يسأل المشركون عن المدبّر، أن المدبّر هو الله: "وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّـهُ"، مما يثبت أن الله هو المدبر الأول والنهائي للكون. هذا التدبير الإلهي يشمل جميع مظاهر الحياة، من الرزق إلى الشفاء، بل وكل ما يجري في هذا الوجود. على الرغم من أن هذه الحقيقة قد تكون واضحة لأولئك الملمين بمعاني القرآن، فإن البعض قد يظن أن القرآن يتناقض في آيات أخرى عند الحديث عن مدبّرين غير الله.

التناقض الظاهري في بعض الآيات:

يظهر في القرآن الكريم أيضًا في بعض الآيات الأخرى إشارة إلى وجود مدبّرين غير الله. على سبيل المثال، في الآية 5 من سورة النازعات: "فَالْمُدَبِّراتِ أَمْرًا"، حيث تُذكر مجموعة من الكائنات التي تقوم بتدبير الأمر. قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تناقضًا بين هذه الآية والآية السابقة التي تنسب التدبير إلى الله فقط. لكن من يتفهم معاني القرآن يكتشف أن هذه الآيات ليست متناقضة، بل هي تكمل بعضها البعض في تصوير الحقيقة التامة.

الاستقلال والتبعية في التدبير:

إن الحقيقة التي يدركها الملمّون بمعارف الكتاب العزيز تتمثل في أن التدبير الإلهي قائم على الاستقلال الكامل لله تعالى، بينما ما يقوم به غيره من مخلوقات هو تدبير تابع لله، ويعتمد على إرادته. فالله تعالى يدبر الكون والظواهر بكل استقلال، ولا شريك له في هذا التدبير، أما المخلوقات الأخرى فتقوم بأفعالها في إطار من التبعية والتأثير المباشر من الله. فهم هذه العلاقة بين الاستقلال والتبعية يعدّ أساسًا لفهم دقيق للتدبير الإلهي.

إن الله تعالى هو مصدر القوة والقدرة في هذا العالم، وكما أن هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات، فإن كل ظاهرة في هذا الوجود تتحقق من خلال مجراها الطبيعي المقرر لها. وبهذا المعنى، يُنسب القرآن الآثار إلى الأسباب الطبيعية دون أن يتعارض ذلك مع خالقية الله لها. وبهذا، يكون ما تقوم به الكائنات من أفعال، على الرغم من أنها تُنسب إليها، هو في الجوهر فعل لله تعالى، ولكن يظهر عبر الأسباب الطبيعية.

التوازن بين الأسباب والمسببات:

ويظهر هذا المعنى بشكل جلي في قوله تعالى في سورة الأنفال (الآية 17): "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّـهَ رَمَى"، حيث يتم وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي، لكن يُؤكد في الوقت ذاته أن الرمي الحقيقي هو من فعل الله، لأن النبي إنما قام بالفعل بقدرة الله التي أمدّه بها. هذا المثال يُبين كيف أن الأفعال التي تصدر عن المخلوقات هي، في واقع الأمر، أفعال لله، لكن يتم نسبتها إلى المخلوق بسبب الواسطة التي يشكلها في هذا الفعل.

في هذه الآية، يُظهر القرآن كيفية تطابق نسبتين مختلفتين للفعل: إحداهما تتعلق بالجانب "المباشر" للمخلوق الذي قام بالفعل، والأخرى تشير إلى الجانب "التسبيبي" الذي يعود إلى الله تعالى. من خلال هذه الفكرة، يتضح أن نسبة الفعل إلى الله، الذي هو مصدر وجود العبد وقدرته، أقوى وأشمل من نسبته إلى العبد. وبالتالي، فإن الفعل يجب أن يُعتبر فعلًا لله، ولكن ذلك لا يعني أن الله يتحمل مسؤولية أفعال عباده.

مسؤولية الإنسان عن أفعاله:

إن شدة الانتساب لله في الأفعال لا تعني أن الله مسؤول عن أفعال عباده، بل إن مسؤولية الإنسان عن أفعاله تظل قائمة. رغم أن المقدّمات الأولية للظاهرة تأتي من الله، فإن الجزء الأخير من العلة التامة يتمثل في إرادة الإنسان ومشيئته. لولا إرادة الإنسان لما تحققت تلك الظاهرة، وبالتالي يبقى الإنسان هو المسؤول عن فعله. هذه الحقيقة توازن بين الاعتراف بالقدرة الإلهية المطلقة وبين مسئولية الإنسان عن اختياراته وأفعاله.

خاتمة:

في الختام، يقدّم القرآن الكريم تصورًا متكاملاً للتدبير الإلهي، يبرز فيه كيف أن الله هو المدبر الأوّل لكل شيء في الكون، بينما تسهم المخلوقات في تحقيق هذا التدبير من خلال التبعية والتأثير المباشر من الله. هذه الرؤية تجمع بين الاستقلال الإلهي في التدبير وبين التفاعل الطبيعي الذي يشهده الكون. ومن خلال هذا التوازن، يصبح من الواضح أن الله هو الفاعل الأوّل في كل شيء، في حين أن البشر يتحملون مسؤولية أفعالهم ضمن إطار إرادتهم الحرة، لكن لا شيء يحدث في هذا الكون إلا بتدبير الله وحكمته.

تعليقات

عدد التعليقات : 0